مِنْ عِبَرِ التاريخِ (5):
قِصّة الفيل مُختلَقَة!؟
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
أرسل إليّ أحدُ الإخوة
الأعزّاء هذا المقطع من الكلام:
«من تصريحات «فلان» التي
فجّرها في الحلقة الرابعة من برنامج [المحايد] والتي بثّتها قناة الإخبارية
العراقية يوم الأحد 18 نيسان أبريل 2021
أقدم نص مكتوب عن تاريخ
الإسلام عمره 250 عام بعد ظهور الدعوة.
وجدتُ أنَّه من الواجب
القيام بإعادة بناء رواية ابن هشام ومن جاء بعده, ووضع المرويات التاريخيَّة في
ميزان النقد والنقاش العلمي والعقلي, دون الإساءة للدين والنص المُقدَّس.
المُؤرّخ ابن هشام يزعم
أنَّه أخذ عن ابن اسحاق الذي لا يوجد له أي نص مكتوب.
رواية ابن هشام مبتورة
ومليئة بالتناقضات, ولكن لا أحد يقترب منها لتجنب الاتهام بالتشكيك بالدين.
أنا أدعو - والكلام لفلانٍ
- لمناقشة المرويات التاريخية وعدم الاستسلام لها والأخذ بها على علّاتها.
المرويات التاريخية
المغلوطة تسببت بفساد أفكار الكثير من الأجيال, وأنتجت أمّة مُسممة بالأحقاد
والضغائن.
هناك سرديتان تاريخيتان
متناقضتان: أمويّة و عبّاسيّة، وقد دمج المؤرّخون في كتبهم بين السرديتين دون نقاش
تناقضهما.
هناك صراعات سياسيّة واضحة
تتجلى في الروايتين, حيث قام كل من الأمويون والعباسيون بالطعن في بعضهما وافتعال
أحداث لم تحدث بالفعل.
رواية غزو أبْرَهَة وجيشه
وفيلته لمكَّة ومحاولة هدم الكعبة, عبارة عن سرديَّة مليئة بالتناقضات والإشكالات غير القابلة للحل.
الإطار التاريخي لقصة
الفيل كما يلي:
كان هناك تنافس وصراع بين
الإمبراطوريتين الروميَّة البيزنطيَّة والفارسيَّة, وامتدت خطوط التماس بينهما من
نصيبين (شمال القامشلي بسوريا) شمالاً إلى نجران (شبه الجزيرة العربية) جنوباً.
الفرس شجَّعوا يهود اليمن
على السيطرة على عرش اليمن, فظهر «ذو النواس الحميري» الذي استولى على الحكم وفرض
الدين اليهودي (كعودةٍ إلى اليهوديَّة دين الأسلاف), وهذا تسبب بإيعاز الروم
للحبشة (المسيحيَّة) بغزو اليمن، فقام جيش الحبشة بغزو اليمن بقيادة «أرياط».
«
«إبْرَهة الحَبْشي» كان من أهل اليمن و أحد قادة المسيحيين في (تعز), قام بقتل
«أرياط» بدوافع وطنيَّة، رغم أنَّ كلاهما يدين بالمسيحيَّة, وفرض حكماً جديداً
اعترفت به الحبشة على مضض, و ورّث الحكمَ من بعده ابنه «أكسوم» الذي دمج جنوب
اليمن مع الحبشة تحت اسم (دولة أكسوم) المسيحية التي شكّلت حاجزاً تابعاً
للبيزنطيين في المنطقة التي يخضع جزءٌ منها للنفوذ الفارسي.
لمْ يغزُ «إبْرَهة
الحَبْشي» مكَّة, وكان مشغولاً بالصراعات الداخلية بين المسيحيين أنفسهم, وقد تم
تلفيق رواية الغزو من قبل المؤرخين الإسلاميين لتجييش المشاعر العروبيَّة ضد الخطر
المسيحي المزعوم, والتشجيع على المشاركة في (حروب الفتوح)
توفي «إبْرَهة الحَبْشي»
في عام 535م أي قبل ولادة
الرسول الكريم (ص) المفترضة في العام 571م والمُسمَّى عام الفيل.
سورة الفيل الواردة في
المصحف لا تُؤكّد ولا تورد لا اسم مكَّة ولا الكعبة ولا أبرهة, وقد تم تفسيرها
بشكل تعسُّفي.
يوجد في (سفر المكابيين)
نصٌ مثيرٌ يتحدَّث عن استخدام الفيل في حربٍ يهوديَّةٍ داخليَّةٍ ».
ثم كتب يقول: «أتمنّى أن
تتناولوا كلام بالردّ، لما لردّكم من أهميّة إذ هو يشكك بمعطيات السيرة النبويّة،
وشكراً».
أقول وبالله التوفيق:
قبل تناولِ كلام (فلان) بالردّ؛
أريدُ أن أقرّر حقيقةً، سبق وأن ذكرتُها في منشور سابقٍ، في الردّ على مَن يقدّس
المخطوطات، فأقول:
إنّ وجودَ عددٍ من
المخطوطاتِ لأيّ كتابٍ بشريّ بخطّ مؤلفه؛ أمرٌ مهمّ ومفيدٌ، لكنّ وجودَ هذا
المخطوطَ للكتب المقدّسة كلّها، سوى القرآن العظيم؛ غيرُ موجودٍ على الإطلاقِ.
فكتبُ العهد القديم؛ تسعة
وثلاثون كتاباً، أوّلها سفر التكوين، ثم سفر الخروج، ثمّ سفر اللاويين، وآخرها سفر
حجّي، ثمّ سفر زكريّا، ثمّ سفر مَلاخي.
وكتب العهد الجديد؛ عدد
كتبها سبعةٌ وعشرون كتاباً، أوّلها إنجيل متّى، ثم إنجيل مرقس، ثم إنجيل لوقا، ثم
إنجيل يوحنّا، ثمّ كتاب أعمال الرسل.
ثمّ الرسائل المقدّسة،
وعددها إحدى وعشرون رسالةً، ثم يأتي الكتاب الأخير «رؤيا يوحنّا اللاهوتي»!
فهل بين أيدي اليهود الذين
جمعوا هذه الكتبَ كلّها في كتابٍ واحدٍ:
هل لديهم مخطوطة الأسفار
الخمسة التي أنزلها على موسى عليه السلام؟
أم لديهم مخطوطة لسفر
التكوين، الذي لا يعرف اليهودُ كاتبه على الحقيقةِ، وإن رجّحوا أنّ كاتبه موسى،
وأنه وحي من الله تعالى؟
وهل لديهم مخطوطة لأيّ
كتابٍ من هذه الكتب التي ناهزت الأربعين؟
وهل بين أيدي المسيحيين
نسخةٌ مخطوطةٌ لأيٍّ من هذه الأناجيل، أو أعمالِ الرسول، أو كتاب يوحنّا اللاهوتي،
أو لواحدة من الرسائل الكبيرة الكثيرة؟
وإذا لم يكن لدى اليهود
والنصارى مخطوطة لأيّ واحدٍ من هذه الكتب بخطّ صاحبها، ولا بخطّ واحدٍ من تلامذته،
ولا بخطّ ناسخٍ بعد (100) سنةٍ من وفاة المؤلّف.
وإذا لم يكن ثمّةَ إسنادٌ
يربط بين ناسخ النسخة والمؤلّف، فهل يوثَقُ بنصٍّ واحدٍ ممّا في هذه الكتبِ، إذا
أردنا اقتباس نصّ منها، وعدّه نصّاً تاريخيّاً وثيقاً؟
فلماذا يعوّل الباحثون
والمؤرخون العرب على كتبِ تاريخٍ ليس لها أيّ مصداقيّة تاريخيّة؛ لأنها دون هذه
الكتب المقدسة عند أهلها في الثبوت؟!
أمّا القرآن العظيم؛
فلدينا أسانيدُ كثيرةٌ متوافقةٌ مع الحفظ التامّ عن ظهرِ قلبٍ جيلاً بعد جيلٍ، حتى
تصل إلى عصر جمع القرآن العظيم، الذي كان في السنة الحاديةَ عشرة من الهجرة
النبويّة الشريعة، أي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم قليلٍ.
أمّا الروايات الحديثيّة
والتاريخية «المغازي» قبل التدوين؛ فكانت تنقل شفاهاً بين أهل العلم كابراً عن
كابرٍ.
وقد صنّف العلماءُ مبكّراً
قبل عام (250 هـ) بل قبل عام (150 هـ) بل قبل عام (100 هـ) وليس كما يقول «فلان»
المحترم.
وقد كان لدى عددٍ من
التابعين أوراقاً مجموعةً محفوظة لديهم، يسمّونها «كتاب».
وأحاديث العلماء من
الصحابة والتابعين؛ نُقلت عنهم بالأسانيد المتّصلة برواية ثقة عن ثقة حتى ذاتِ
القائل أو الفاعل، سواءٌ كان القائلُ الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو من
دونه من صحابيّ أو تابعيّ.
نعم وروي عن الصحابة
والتابعين أقوالٌ وأفعالٌ بأسانيدَ ضعيفة، وقد عاش لها النقّاد الجهابذة الذين لا
يُعرف لأمّة من الأمم واحدٌ من أمثالهم في كلّ جيل من الأجيال.
ولو وُجد لدينا - نحن المسلمين – مخطوطةٌ، زعمَ حائزها أنّها بخطّ المؤلّف، أو بخطّ تلميذه؛ فليس
لها عندنا أدنى قيمةٍ، ما لم تكن مقابلةً، وما لم تكن مصححةً، وما لم تكن مقروءةً
على العلماء، وما لم تكن مسندةً من مالكها، أو ناسخها إلى المؤلّف.
بين يديّ الآنَ روايةُ
الحافظِ أبي ذرٍّ الهرويّ لصحيح الإمام البخاريّ، رحمهما الله تعالى، بإسناد الإمام
الحافظ العلامة شيخ الأندلس محمد بن يوسف بن سعادة الأندلسيّ (ت: 566 هـ).
هكذا وصفه الذهبيّ في
النبلاء (20: 508) وزاد: «لاَزم أَبَا عَلِيٍّ الصَّدَفِيّ، وَصَاهَرَه، وَصَارَت
إِلَيْهِ أَكْثَرُ أُصُوْلِه».
قال الحافظ أبو عبدالله
بنُ سعادةَ رحمه الله تعالى: «أخبرنا الفقيه أبو عليٍّ حُسين بن محمد بن فُيُرّةَ
الصدفيّ رضي الله عنه قراءةً عليه قال: أخبرنا الفقيه القاضي أبو الوليد سليمانُ
بن خلفٍ الباجيُّ رضي الله عنه قال: أخبرنا الشيخ أبو ذرٍّ عبدُ بن أحمدَ الهرويُّ
قراءةً عليه في المسجد الحرام قال: أخبرنا أبو محمّد عبدالله بن أحمد بن حمويه
السرخسيُّ بهراةَ سنةَ ثلاثٍ وسبعين وثلاثمائة، وأبو إسحاقَ إبراهيم بن أحمد بن
إبراهيم المستملي ببلخٍ سنة أربعٍ وسبعينَ وثلاثمائة، وأبو الهيثم محمّد بن المكيّ
بن محمّد بن زُراعٍ الكُشْميهِنيُّ بها –
يعني بكُشْميهِنَ –
قراءةً عليه، قالوا –
السرخسيُّ والمستملي والكُشْميهِنيُّ: أخبرنا أبو عبدالله محمد بن يوسف بن مطر
الفَرَبريُّ بِفِرَبْرَ قال: حدّثنا أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاريّ قال:
حدّثنا الحميديّ.
وهذه النسخةُ التي بين
أيدينا كانت ملكَ عمّه الشيخ أبي عمرانَ موسى بن سعادة المُرسيّ، ثمّ آلت إليه،
وسمعها على الصدفيّ المتقدم ذكره، وسمعها عليه جماعة أجلّهم الفقيه الجليل أبو
عبدالله محمد بن عبدالسلام بن محمد سنة (535 هـ).
انظر ماذا قال كاتب هذه
النسخة ابن عبدالسلام هذا، على المرجّح:
«تمّ جميع الديوان «الجامع
الصحيح» والحمد لله حقّ حمده، وصلواته على محمّد نبيّه وعبده وصحابته الأكرمين،
ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، ليلةَ الاثنين، الثالثِ من شعبانَ المكرّم، سنة
خمسٍ وخمسمائة (505 هـ).
انتسختُ معظمَه من كتابٍ
انتُسخَ من أصل القاضي أبي الوليد الباجي رضي الله عنه، وصُحّحَ به.
وقابلتُ جميعَه به مرّتين،
جهدَ الطاقةِ.
ثمّ قابلتُ من كتاب البيوع
إلى آخره مرّتين بكتاب الفقيه الأجلّ المشاوَر، المحدّث الأكمل أبي عبدالله ابن
سعادةَ، رحمه الله تعالى.
ثمّ قابلتُ بينه وبين
الأصل العتيق الذي كان القاضي أبو عليّ بن سكّرةَ رحمه الله، يرويه، وعليه
اعتمدتُ، وإليه فيما أشكل رجعت.
وقابلتُ أيضاً من أوّله
إلى كتاب البيوع ثلاثَ مرّاتٍ بأصل القاضي أبي الوليد بن الدبّاغ المنتسخ من
الكتابِ الذي انتسختُ أنا منه هذا الكتاب، المصحح بكتاب أبي عليٍّ المذكور، فصحَّ
إن شاء الله تعالى، والحمد لله على ما أولى.
وعلى هذه النسخة سماعاتٌ
كثيرةٌ، يطول المنشور بسردها، فانظرها في الدراسة الماتعة التي قام بها الدكتور
الشريف محمد مجير الخطيب الحسنيّ الدمشقي (ص: 36 - 43).
وحتى لا يُدخِل ناسخٌ
مغرضٌ حديثاً في الجامع الصحيح للبخاريّ؛ فإنّ أبا محمّد الحمّويي شيخَ أبي ذرّ
الهرويّ ؛ قام بعدّ كتب الجامع الصحيح، وعدّ أحاديثه.
ففي (ص: 43) من الدراسة
ذاتها ما نصّه:
«جاء في الورقة الأخيرة من
هذا السفر (260/ ب) عدد من الفوائد منها عدد أحاديث كتاب الجامع الصحيح للبخاريّ
فقال:
بَدءُ الوحيِ؛ خمسةُ أحاديثَ.
الإيمان؛ خمسون حديثاً.
العلم خمسة وسبعون حديثاً.
الوضوء مائة حديثٍ، وتسعة أحاديث.
وفي الأخير:
إجازة خبر الواحد؛ تسعة عشر حديثاً.
الاعتصام ستة وتسعون
حديثاً.
التوحيد وتعظيم الربّ مائة
وسبعون حديثاً إلى آخره، وعدد ذلك كله؛ سبعة آلافٍ ومائتا حديثٍ، وخمسة وسبعون
حديثاً... إلخ.
ونحن في المركز الهاشميّ
للبحثِ العلميّ؛ قابلنا صحيح الإمام البخاريّ على ثلاث نسخٍ خطيّة، إحداها في
القرن الثامن الهجري (نسخة النويريّ) والأخريان في القرن التاسع الهجريّ (نسخة
البقاعيّ) ونسخة أبي السعادات الكازرونيّ
وقابلت أنا ثلاثين حديثاً
بنسخة الحافظ محمد بن إسماعيل الصنعاني الأمير، فلم تختلف إحدى هذه النسخ عن غيرها
بشيء يذكر!
وسأقابل نسختنا من صحيح
البخاريّ بنسخة أبي ذرّ هذه، فهي أقدم من نسخة النويريّ بقرنين من الزمان.
هل لدى المؤرخين المعتمدين
لدى فلان وأمثاله، كتاب مقدّسٌ أو كتاب تاريخيّ غير مقدّس، حاز بعض هذا القدر من
العناية والمقابلة والضبط والتوثيق؟!
هذه مقدّمة طالت، لكن كان
لا بد منها في نظري!
وأبدأ الآن بالردّ على (فلان)
من حيث انتهى هو:
قال في ختام كلامه: «يوجد
في (سفر المُكابيين) نصٌ مثيرٌ، يتحدَّث عن استخدام الفيلِ، في حربٍ يهوديَّةٍ
داخليَّةٍ».
قال الفقير عداب: كأنّ
الكاتب هذا يُلمح إلى إمكانية أن يكون سورة الفيل كلّها مستقاة من سفر المكابيين!
سفر المكابيين هذا؛ هو آخر
سفرٍ في التوراة، كما يقول المختصّون، لكنه ليس في نسخ التوراة المتداولة بين أهل
الكتاب اليوم، ولا يوجد حتى في النسخة العبريّة من العهد القديم.
جاء في موقع الأنبا تكلا
هيمانوت، على شبكة «الانترنيت» في دراسةٍ عن سفر المكابيين الأوّل ما نصّه: «سفرا
المكابيين الأوّل والثاني؛ هما آخر أسفار التوراه
وهناك نزاعٌ حادٌّ بين
اليهود والنصارى في اعتماد سفر المكابيين، وعلى التسليم باعتماده لديهم، فأقدم نسخ
هذا السفر تعود إلى القرن الرابع الميلاديّ، يعني بعد عهد المكابيين اليهود بأربعة،
أو خمسة قرون!
وجاء في موقع الأنبا تكلا
هيمانوت ما نصه:
«ويُنسَب سفرا المكابيين
إلى الأسرة المكابية التي أسسها «متتيا أو متاثياس» وهو اسم عبرانيّ معناه عطيّة
الربّ.
ويَذكر السفر الأوّل أنّ
مؤسس الأسرة هو متتيا بن يوحنا بن سمعان... والمتتبع لتاريخ بني إسرائيل؛ يعلم
أنهم بعد عودتهم من سبي بابل في المرة الأولى، لسنة (536) قبل الميلاد، أيام الملك
«كورش» ...
إلى أن يقول: «وقد خضع
اليهود للبطالسة الذين كانت مصر واليهودية من نصيبهم، واستمروا كذلك حتى عام (203
ق.م).
وقد استمرّ اليهود خاضعين
للسلوقيين حتى عام (167 ق.م) وعندئذٍ نعموا بالاستقلال على عهد دولة المكابيين،
التي استمرت حتى عام (63 ق.م) وفي هذه السنة خضع اليهود للرومان».
يفهم من الدراسة التي
قدّمها الأنبا «تكلا» أن سفر المكابيين الأوّل يحكي تاريخ بني إسرائيل من عام (167
ق.م) إلى عام (63 ق.م) وأنّ «متتيا» جدّ هذه الأسرة كان قبل هذا التاريخ».
لكنّ السفر يتحدّث عن
بطولات «المكابيين» فيفترض أن يكون كُتب في أثناء حكمهم، وحتى نهايتهم، أو بعده
بقليل، حتى عام (60 – 50
ق.م).
فيكون بين كتابة هذا
السفر، ومخطوطات القرن الرابع الميلادي (400) سنة، في الحدّ الأدنى.
وواضح غايةَ الوضوح؛ أنّ
هذا السفر يتحدّث عن التاريخ، فالإصحاح الأوّل فيه يبدأ:
(إنّ الاسكندر بن فيلبس
المكدونيّ بعد خروجه من أرض «كتيم» وإيقاعه بداريوس ملك فارس وماداي؛ ملك مكانه).
وآخر هذا السفر نصّه:
(وبقية أخبار يوحنا وحروبه وما أبداه من الحماسة، وبناؤه الأسوار التي بناها،
وأعمالُه مكتوبةٌ في كتاب أيام كهنوته الأعظم، منذ تقلّد الكهنوتَ بعد أبيه) انتهى.
فهل يُشوّشُ بمثل هذا
السفر المحذوف من طبعات الكتاب المقدس، على كتبنا المُسندة؟
أوْ يَكفي أن يكون الكتابُ
غربيّاً ليكون معتمداً، ويمكن أن يردّ به على كتب أهل الإسلام، بل يمكن أن يكون
الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم استمدّه من سفر المكابيين؟
على أنّ كلامه في أنّ
اليهود استخدموا الفيل في حربّ يهوديّة داخليّة؛ غير صحيح بتاتاً، إذ ليس مواطن
وجود الفيل بلاد الشام والعراق!
فقد جاء في مقدمة شرح الإصحاح
السادس من سفر المكابيين، للأنبا مكاريوس الأسقف العامّ ما نصّه: «عندما مات
أنطوخيوس أبيفانوس (164 ق.م) في طريق عودته من الشمال إلى إنطاكية؛ كان ابنه
المسمّى «أنطوخيوس أوباطورَ» ما يزال صبيّا في التاسعة من عمره، فخاض ليسياس (ت:
167 ق.م) الوصيّ عليه حروباً باسمه مع اليهود، هزمهم فيها، قبل أن يتمّ عقد الصلح
بين الطرفين».
فالحرب إذنْ كانت بين
الدولة السلوقيّة وبين اليهود.
والذين استعملوا الفيل هم
السلوقيين، استعملوا اثنين وثلاثين فيلاً في حملتهم على اليهود!
ففي الإصحاح السادس، فقرة
(21 -
27) أنّ اليهود حاصروا قلعة عكرةَ التي كانت بمثابة قاعدةٍ عسكريّة للسلوقيين، قرب
أورشليم القدس، وأثخنوا في سكانها الذين تحصّنوا بها منهم.
استطاع أحد اليهود الخونة
المتآمرين مع الملك السلوقيّ أن يبلّغوه بما حصل، فغضب غضباً شديداً، وجهّز جيشاً
هائلاً، قوامه (100) ألف راجل، و(20) ألف فارس، ومعهم اثنان وثلاثون فيلاً مدرّباً
على الحرب.
وفي الفقرة (43 - 47) أنّ رجلاً اسمه «ألعازر»
أراد أن ينقذ شعبه من اليهود، فهجم على جيش الملك السلوقي «أنطوخيوس» وظلّ يقتل
يمنةً ويسرةً، حتى وصل إلى الفيل، وكان يظنّ الملك على ظهره، فدخل بين قوائم الفيل
وقتله، فسقط عليه الفيل إلى الأرض، فمات من ساعته» إلخ.
فلست أدري أدلّس الدكتور «فلان»
أم إنّه لم يفهم النصّ؟
أحلاهما مرٌّ!
وقال الدكتور «فلان»:
«لم يَغزُ «إبْرَهةُ
الحَبْشي» مكَّة, وكان مشغولاً بالصراعات الداخلية بين المسيحيين أنفسهم, وقد تم
تلفيق رواية الغزو من قبل المؤرخين الإسلاميين لتجييش المشاعر العروبيَّة ضد الخطر
المسيحي المزعوم, والتشجيع على المشاركة في (حروب الفتوح).
تُوفّيَ «إبْرَهة
الحَبْشي» في عام 535م أي قبل ولادة
الرسول الكريم (ص) المفترضة في العام 571م والمُسمَّى عام الفيل.
سورة الفيل الواردة في
المصحف لا تُؤكّد ولا تورد لا اسم مكَّة ولا الكعبة ولا أبرهة, وقد تم تفسيرها
بشكل تعسُّفي».
قال الفقير عداب:
لست أرى في كلام الدكتور
الربيعيّ سوى كلامٍ مرسلٍ، كمن يتحدّث في سهرةِ مسامرةٍ عن حادثة عاصرها، فكلامه
بلا توثيق ولا مصادر، وهما أوّل خطوات البحث العلميّ، وبدونهما لا قيمة لأيّ كلامٍ
البتّة!
إنّ كلام الدكتور وغير
الدكتور من المهتمّين بالتاريخِ؛ لا يستندون إلى رواياتٍ مسندةٍ صحيحةٍ، ولا إلى
رواياتٍ مسندةٍ ضعيفةٍ، إذ ليس لغير أمّة الإسلام أسانيد!
كما لا يستندُ الدكتور
وغيره إلى مخطوطاتٍ ترجع إلى حقبة أبرهة وذي نواس ومملكة أكسوم!
إنما هي رواياتٌ تاريخيّة
مرسلةٌ، تُروى على سبيل الحكايات، من أمثال رواية سيف بن ذي يزن، ورواية تغريبة
بني هلال، وحرب عليّ بن أبي طالب مع الجنّ!
وهذا يعني أنّ الرواية
المسندة الضعيفة؛ خير من كلّ تلك الكتابات التاريخية القديمة التي تعتمد على
الروايات الشفوية، التي دوّنت بعد زمنٍ من الواقعة المؤرّخ عنها.
ولست أدري من أين جاء
الدكتور (فلان) بأنّ أبرهة توفي سنة (535م) ليته كان ذكر لنا مصدرَ كلامه المرسَل
هذا!
ففي الموسوعة العربية
الميسّرة (1: 9) أنّ أبرهة عاش إلى عام (570) أو (571م).
وفي الموسوعة الحرّة
«ويكيبيديا» أنه أبرهة بن الصبّاح الحبشيّ، وأنه حكم اليمن من عام (531) أو (547م)
وحتى العام (555) أو (565م).
ونقلَتْ الحرّةُ عن
الموسوعة البريطانية أنّ أبرهةَ كان مسيحياً متديّناً، وأنه قاد حملةً على مكة
المكرمة بتاريخ إبريل عام (571م).
وهذا يعني أنّ أبرهة لم
يمت سنة (535م) إنما مات سنة (555) أو (565م) أو بعد عام (571م) مما يعني أنّ هذه
التواريخ كلّها ظنيّة، ليس من الأمانة العلمية اعتمادُ شيءٍ منها لردّ ما هو
إسلاميّ؛ لأنه إسلاميّ!
يقول الدكتور جواد علي في
كتابه «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» (6: 171):
«ولأهل
الأخبار روايات عن كيفية استئثار أبرهةَ بالحكم واغتصابه له.
-
فلهم رواية تقول: إنه جاء إلى اليمن جنديًّا من جنود القائد الحبشي «أرياط» لذي
كلفه نجاشي الحبشة بفتح اليمن، فخرج أبرهة على طاعة قائده، ثم غدر به وأخذ مكانه.
- ولهم رواية أخرى، تقول: إن النجاشي أرسل جيشًا قوامه سبعون ألفًا، جعل
عليه قائدين، أحدهما: أبرهة الأشرم.
فلما
ركب ذو نواس فرسه واعترض البحر فاقتحمه وهلك به، نصب أبرهة نفسه ملكًا على اليمن.
- وتذكر رواية أخرى، أن النجاشي كان قد وجه أرياط
أباصحم "ضخم" في أربعة آلاف إلى اليمن، فدخها وغلب عليها، فأعطى الملوك،
واستذل الفقراء، فقام رجل من الحبشة يقال له أبرهة الأشرم أبو يكسوم، فدعا إلى
طاعته. فأجابوه، فقتل أرياط، وغلب على اليمن.
- وتذكر روايةٌ أنّ «أرياط» أخرب مع ما أخرب من
أرض اليمن سلحين وبينون وغمدان، حصونًا لم يكن في الناس مثلها. ونسبوا في ذلك
شعرًا إلى "ذي جدن"، زعموا أنه قاله في هذه المناسبة2.
- ويظهر من روايات أخرى أن تلك الحصون بقيت إلى ما
بعد أيامه، وذُكِرَ أنّ «أرياط» كان فوق أبرهة، أقام باليمن سنتين في سلطانه لا
ينازعه أحد، ثم نازعه أبرهة الحبشي الملك.
- وتجمع روايات أهل الأخبار على أن النجاشي غضب
على أبرهة لما فعله باليمن وما أقدم عليه من قتل أرياط، وأنه حلف ألا يدع أبرهة
حتى يطأ بلاده، ويجز ناصيته، ويهرق دمه.
فلما بلغ ذلك أبرهة، كتب
إلى النجاشي كتابًا فيه تودد واعتذار وتوسل واسترضاء. فرضي النجاشي عنه، وثبته على
عمله بأرض اليمن».
فأنت ترى أنّها حكاياتٌ
شفويّة، غير معروفة القائل، دُوّنت فيما بعدُ مرسلةً، ليس فيها: حدّثنا وأخبرنا
وسمعت، وكتب إليّ فلانٌ، وقرأت في كتاب فلانٍ بخطّ يده.
فكيف يناهض الدكتور سيرةَ
ابن إسحاق المشهورةِ في المغازي؟
وكلامُ الدكتور بأنْ ليس
لابن إسحاق شيء مكتوبٌ؛ كلام إنسان جاهلٍ تماماً بالتاريخ الإسلاميّ، أو إنّه
عمداً يشكك بذلك!
فالإمام محمد بن إسحاق
المطّلبيّ (ت: 151 هـ) له كتابٌ كبيرٌ في السيرة النبويّة، وقد نقل منه عشراتُ
الحفّاظ والمؤرخين المسلمين.
وقد وجدَ الدكتور سهيل
زكّار الحمويّ قطعةً من هذا الكتاب، برواية يونس بن بكير، رواه عنه أحمد بن
عبدالجبّار العُطارديّ (ت: 248 هـ) ترجمه ابن حجر في التقريب (64) وقال: سماعه
للسيرة صحيح.
وترجمه الذهبيّ في النبلاء
(13: 55) وقال: الشَّيْخُ، المُعَمَّرُ، المُحَدِّثُ، أَبُو عُمَرَ أَحْمَدُ بنُ
عَبْدِ الجَبَّارِ.
حَدَّثَ بِالمَغَازِي
لابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ يُوْنُسَ بنِ بُكَيْرٍ، عَنْهُ.
أحمد بن عبدالجبّار هذا
يقول في مقدمة القطعة الموجودة من السيرة (ص: 23): حدّثنا يونس بن بكير قال: «كلّ
شيء من حديث ابن إسحق مسندٌ؛ فهو أملاه علي، أو قرأه علي، أو حدثني به.
وما لم يكن مسنداً؛ فهو
قراءةٌ، قرىء على ابن إسحق».
انتبه إلى أمانة يونس بن
بكير الذي أخرج له مسلم في صحيحه، وترجمه الذهبي في النبلاء (9: 245) فقال: الإِمَامُ،
الحَافِظُ، الصَّدُوْقُ، صَاحِبُ المَغَازِي وَالسِّيَرِ.
فأين هذا من قال وقيل وزعموا؟
والقطعةُ الموجودة من سيرة
ابن إسحاق (381) صفحة، مروية عن ابن إسحاق بالإسناد!
وسيرة ابن إسحاق مضمنة في
كتب السيرة والمغازي التي جاءت بعدها.
انظر سيرة ابن حبّان مثلاً،
فقد نقل عن ابن إسحاق قرابة (40) نصّاً.
وانظر إلى البيهقيّ، فقد
نقل في دلائل النبوة أكثر من (100) نصّ من طريق ابن إسحاق.
أمّا عبدالملك بن هشام
المعافريّ (218 هـ) الذي اختصر سيرة ابن إسحاق؛ فقد ترجمه الذهبيّ في النبلاء (10:
428): العَلاَّمَةُ، النَّحْوِيُّ، الأَخْبَارِيُّ، أَبُو مُحَمَّدٍ الذُّهْلِيُّ.
هَذَّبَ السِّيْرَةَ
النَّبَوِيَّةَ، وَسَمِعَهَا مِنْ زِيَادٍ البَكَّائِيِّ صَاحِبِ ابْنِ إِسْحَاقَ،
وَخَفَّفَ مِنْ أَشعَارِهَا، وَرَوَى فِيْهَا مَوَاضِعَ عَنْ عَبْدِ الوَارِثِ بنِ
سَعِيْدٍ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ.
رَوَاهَا عَنْهُ مُحَمَّدُ
بنُ حَسَنٍ القَطَّانُ، وَعَبْدُ الرَّحِيْمِ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ البَرْقِيِّ،
وَأَخُوْهُ أَحْمَدُ بنُ البَرْقِيِّ، وَلَهُ مُصَنَّفٌ فِي أَنسَابِ حِمْيَرٍ
وَمُلُوكِهَا.
قَالَ
الدَّارَقُطْنِيُّ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدٍ المُطَّلِبِيُّ
بِالرَّمْلَةِ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بنُ يَحْيَى بنُ حَيَّوَيْه، سَمِعْتُ
المُزَنِيَّ يَقُوْلُ:
قَدِمَ عَلَيْنَا
الشَّافِعِيُّ، وَكَانَ بِمِصْرَ عَبْدُالمَلِكِ بنُ هِشَامٍ صَاحِبُ (المَغَازِي)
وَكَانَ عَلاَّمَةَ أَهْلِ مِصْرَ بِالعَرَبِيَّةِ وَالشِّعْرِ!
ابن هشام هذا يقول في
مقدمة سيرته (1: 4):
«وَتَارِكٌ بَعْضَ مَا
ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذَا الْكِتَابِ، مِمَّا لَيْسَ لِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِيهِ ذِكْرٌ، وَلَا نَزَلَ فِيهِ مِنْ
الْقُرْآنِ شَيْءٌ، وَلَيْسَ سَبَباً لِشَيْءِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ «السيرة»
وَلَا تَفْسِيرًا لَهُ، وَلَا شَاهِدًا عَلَيْهِ، لِمَا ذَكَرْتُ مِنْ
الِاخْتِصَارِ.
وَ«تركتُ» أَشْعَارًا
ذَكَرَهَا، لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يَعْرِفُهَا،
وَأَشْيَاءَ بَعْضُهَا يَشْنُعُ الْحَدِيثُ بِهِ، وَبَعْضٌ يَسُوءُ بَعْضَ
النَّاسِ ذِكْرُهُ، وَبَعْضٌ لَمْ يُقِرَّ لَنَا الْبَكَّائِيُّ بِرِوَايَتِهِ.
وَمُسْتَقْصٍ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْهُ، بِمَبْلَغِ الرِّوَايَةِ لَهُ،
وَالْعِلْمِ بِهِ».
فابن هشامٍ إذنْ هذّب
كتابَ سيرة ابن إسحاق، تهذيبَ عالم ناقدٍ، حافظ على الروايةِ، وترك ما دون ذلك!
فهذا عملٌ جليلٌ، لا يقوم
به إلا مثل ابن هشامٍ الموسوعيّ الثقافة!
وقول الدكتور بأنّ في
سيرته تناقضاً كثيراً؛ جوابُه أنّ المحدّثين والرواة الذين لم يشترطوا الصحةَ في
كتبهم؛ يسندون الصحيحَ وغير الصحيح، وعلى القارئ العالم أن يميّز، هذا على افتراض
صحة هذه الدعوى المرسلة!
وحادثة الفيل؛ جاء ذكرها
في القرآن العظيم، مرتين هكذا:
بسم الله الرحمن الرحيم
(لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)
إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا
الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
[قريش].
فآمنهم
من خوفٍ؛ هو خوفهم الشديد من جيش أبرهة الذي لا قِبَل لهم به.
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي
تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ
بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5).
فهناك حادثة غضب الله
تعالى فيها على قومٍ معهم فيلٌ، بسببٍ لم يرضه عنهم.
وفي هذه الحادثة أنهم
أرادوا كيداً عظيماً، فأبطل الله كيدهم وعاقبهم!
وفيها أنّ العقاب كان
بتسليطِ جيشٍ من الطيور، تحمل في أقدامها حجارةً حامية فتاكة، ترميهم بها، فتشتعل
أدمغتهم ويموتون.
حتى صاروا جيفاً تأكلها
الجوارح، مثل القشّ الذي تأكله الأنعام!
هذه حادثةٌ عظيمة، لم
يُذكَر مثلها في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في سفر المكابيين، ولا في أيّ مكانٍ
آخر من تاريخ الدنيا.
ولا تفسير لها سوى ما
يعرفه الأقربون، وهذا ما نُقل عن أهل الحرم قبل الإسلام وبعده.
وقد أشار إليها الرسول
صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله:
(حبسها حابس الفيل) الذي
ورد في قصة غزوة الحديبية، التي أخرجها أحمد في مسنده، وأصحاب السنن، سوى الترمذيّ
والبخاريُ في صحيحه (2734) وجاء في القصّة أنّ الناقة التي يركبها الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم (خلأتْ) يعني حَرَنَتْ، وامتنعت عن المشيِ تجاهَ مكة المكرمة، فقال
الصحابة: خلأت القصواء.
وهي صفة عناد ونشوز في
الناقة!
فقال الرسول صلى الله عليه
وآله وسلّم: (ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلُق!
ولكن حبسها حابس الفيل)
والمقصود أنّ الناقةَ ألهمها الله تعالى لتقوم بهذا الحِرانِ فيفهمَ الرسول صلّى
الله عليه وآله وسلّم مِن فعلها هذا أنّ الكفَّ هو المطلوب في هذه المرحلة.
وأخرج أحمد والدارميّ وأبو
داود والبخاريّ (2434) ومسلم (2414) من حديث أبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف عن أبي
هريرة قال: «لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ قَامَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ،
وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهَا لَنْ تَحِلَّ
لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ،
وَإِنَّهَا لَنْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدِي) الحديث بطوله.
فهذان حديثان مسندان
صحيحان، يفوقان جميعَ ما لدى الغرب من مخطوطات مليئةٍ بالتحريف والتبديل!
فتأتي رواياتُ أصحاب
المغازي شرحاً وتوضيحاً، مستقىً من الثقافة الشفوية المتناقلَة بين ذاك الجيلِ من
العرب.
أفنترك القرآن العظيم الذي
أشارَ إشارةً واضحة إلى حادثة الفيل، ونترك حديثين في صحيحي البخاري ومسلم، لنأخذ
بتحليلٍ لم يأتِ عليه صاحبه بأدنى دليلٍ، سوى التخرّص والتشكيك؟
سبحان هذا بهتان عظيم!
وما وراء ذلك من كلام هذا
الدكتور؛ أدنى من الردّ عليه وأدون!
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
والحمد
لله على كلّ حال.