التاريخ الاسلامي كله بني على التعامل البشري للمسلمين مع تعاليم الله تبارك وتعالى الواردة إليهم عن طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكتاب والسنة.
فما كان في تاريخنا من مساحات مشرقة مضيئة، فهو القدر الذي اهتدى فيه المسلمون بتعاليم الوحي وتطبيقات النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
وما كان فيه من سِباخٍ وسُجُفٍ وظلام، فهو أثر من آثار الانحراف عن منهج الله تبارك وتعالى بغض النظر عما إذا كان هذا الانحراف مقصوداً أم غير مقصود، وسواء كان أثراً من آثار حظوظ النفس البشرية أم كان خطأً في الاجتهاد، فالذي تمخض عن ذلك كله هو هذا الواقع البئيس الذي نعيشه.
وإن من أغرب ما يصادف الباحث النزيه الحر في دراسة هذا التاريخ تلك القداسات المزعومة لرموز أو مواقف، ومحاولة الدفاع عن تلك الأخطاء بين سطر وسطر بتعليلات ينقض بعضها بعضاً، حيناً بعد حين.
والتاريخ الاسلامي، يعتقد أهل السنة أن الشيعة هم الذين استأثروا بكتابته والشيعة يعتقدون أن أهل السنة -أنصار الحكام- هم الذين صاغوا التاريخ على وفق أهواء أولئك الحكام الظالمين، في نظرهم.
والصواب أن للحكام دوراً بارزاً كبيراً فيما يُكتب وما لا يُكتب، والوقوف على الحقيقة في وقائع التاريخ، وخاصة في القرن الأول، عويصةٌ عسيرةٌ، لأنها تصطدم بما يسمى (مسلَّمات) لا يجوز المساس بها، من مثل: عدالة الصحابة، وعصمة الأئمة، والنص، والتعيين، والالماح، والاشارة، وفضائل الصحابة التي لم تعد فضائل فحسب، وإنما غدت عقائد مركوزة في أدمغة عامة المسلمين، بل مثقفيهم، ولهذا يصعب طرح وقائع من التاريخ الاسلامي الأول عارية غير مغلفة، لأن الأسلوب الأمثل عند المسلمين بجميع طوائفهم هدر دم المخالف وتكفيره وتفسيقه؛ إذا خرج على السائد في الشارع الجاهل.
والأمم المتحضرة كلها تفرق بين خمسة أنواع من الطروحات الفكرية:
1. فالطرح الفكري العام: هو الذي يتماشى مع سذاجة العوام ويرتفع بهم قليلاً لِتَحْسُنَ سياستُهم من قبل الحكام. وهذا أردأ أنواع الطروح الفكرية وأيسرها.
2. والطرح الفكري الموثق بالعزو والاحالات: كمن يتكلم على معركة الجمل أو صفين مستنداً إلى روايات تاريخ الطبري، أو إلى ما يختاره هو منها، فإن المثقف العادي حين ينظر في الإحالة إلى تاريخ الطبري يذهب وَهَلُهُ مباشرة إلى أن الذي أمامه صحيح موثق. والصواب أن هذا هو التاريخ الخادع المخادع الذي يكتبه أصحاب الأهواء، سواء كانوا من اتجاهات السنة أم الشيعة أم الخوارج.. إلى آخره. لأن هذه الكتب ليست خالصة للحقائق الصحيحة، كل كتب التاريخ بلا مثنوية تجمع الغث والسمين، ولا يجوز اعتماد ما فيها على أنه صحيح مطلقاً، حتى في حال عدم معارضة بعض النصوص لبعض.
3. الطرح الفكري (المرجعية الفقهية): وتعتمد أيضاً لدى كبار الكتاب المحققين على أنها مرجعية موثوقة بسبب أنها قد بُني عليها أحكام فقهية شرعية، ويبدو هذا أشد ما يبدو لدى الإمامية والحنفية والمالكية الذين لديهم مرجعيات ملزمة، من عصمة الأئمة، وحجية قول الصحابي، وعمل أهل المدينة، وهي كلها في الحقيقة ليست مرجعيات ملزمة. وهذا أخطر جانب على الفكر الإسلامي الناقد، لأنه لا يمكنه مصادمة حكم فقهي غدا في أنظار تسع وتسعين بالمئة من أئمة الإسلام أنه دين!! وهو ليس بدين وإنما هو اجتهاد صاحبه في فهم هذا الدين. فقد يكون صواباً، فيكون من الدين؛ وقد يكون خطأً، فلا قدسية له، ولا هو من الدين!!
وأضرب لذلك مثالاً صغيراً جداً، وهو مشهور: إن قراءة الفاتحة في الصلاة واجبة عند جماهير علماء المسلمين، وهي ركن عند الشافعية حتى في صلاة الجماعة خلف الإمام. ويذهب السادة الحنفية إلى أن قراءة الفاتحة خلف الإمام مكروهة تحريماً!!
فهذه مرجعية فقهية يدين الله بها أكثر من نصف المسلمين على الكرة الأرضية وهي عند النصف الآخر ليست مرجعية مقدسة، ولا هي صحيحة!!
وهذا في مسائل العبادات، فما بالك بمسائل التاريخ التي تصطدم مع ما أعطيناه لأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، من قداسة مطلقة، تشبه إلى حد بعيد قداسة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
صحيح أن الشافعية، ومن تبعهم، في كتب الأصول لا يقولون بحجية قول الصحابي، فضلاً عن التابعي فمن دونه! لكن الواقع المنظور أن الشافعية، قبل غيرهم، بنوا عقائد وصححوا وقائع كثيرة بناءً على أقوال بعض الصحابة والتابعين فمن بعدهم.
وإلا فماذا عن هذه العقيدة التي نكفر ونفسق ونضلل على اعتقادها أو منافاتها، ما حظها من شرع الله؟! وما أثرها في دين الله؟! وهي عقيدة: القول بخلق القرآن، أو بغير خلقه!!
فإن الأمة انتصرت لأحد الفريقين المتصارعين بغير عقل، فالمعتزلة ومن ذهب مذهبهم كفروا بقية الأمة، وبقية الأمة كفروا المعتزلة في مسألة صغيرة لا يترتب عليها أي حكم تكليفي، ولا يسأل الله أحداً عنها يوم القيامة! ولا نزال اليوم نقرر أن من يقول بخلق القرآن كافر!! ويقرر الإباضية والزيدية والاسماعيلية وغيرهم من الفرق غير المحدودة أن من يقول بقدم القرآن كافر!
ويُدرَّس هذا في الجامعات ويُعَدُّ من دين الله، وهو لا صلة له بدين الله أصلاً!!
4. الطرح الفكري التاريخي الفلسفي: وهو الذي يسميه العلماء اليوم: البحث عن فلسفة الوقائع، ورؤية مقدماتها وأسبابها ودوافعها، ورصد مسيرتها والوقوف على نتائجها وآثارها.
وهذا لا وجود له -والحمد لله على كل حال!!- في بيئاتنا العربية على الاطلاق وخاصة في الدراسات الدينية الشرعية، لأنه يعني البحث في الأسباب الحقيقية التي قادت أبا بكر الصديق رضي الله عنه إلى هذه الحروب الطاحنة التي سموها حروب الردة. فالأسباب الخفية -في واقع الأمر- هي غير المعلنة! ورصد مسيرة هذه الحروب تبرز جانباً من جوانب التعامل البشري الخاطيء لدى المتحاربين، والوقوف على نتائجها من قتل آلاف العرب المسلمين وغير المسلمين، ورصد آثارها المدمرة التي كانت من أبرز أسباب ظهور الفرق القبلية ثأراً لمن قُتل في تلك الحروب، وانتصاراً للأفكار التي كانت وراء قيامها!!
وقل مثل ذلك عن الأسباب الحقيقية لمنع عمر رضي الله عنه إعطاء بني هاشم سهم الخمس!
وقل مثل ذلك في إعراض عثمان رضي الله عنه عن سيرة الشيخين في توزيع الثروة!
وقل مثل ذلك في إعراض علي رضي الله عنه عن متاركة أهل الجمل والصبر عليهم!
فلا ريب أن الأسباب المعلنة ظلال الأسباب غير المعلنة، أو بعضها على أقل تقدير، وهذا لا يحتمله أكثر المفكرين المسلمين، مع احتمالهم كل ما يسمونه التأويل، والتماس المعاذير، والتغطية على هذا الواقع التاريخي.
5. الطرح الأخير، وهو نقد التاريخ: ويبدو أن الأمة تحارب هذا النوع من الطرح محاربة لا هوادة فيها، بأشد مما تحارب الطرح التنظيري الذي قبله!
ولهذا بقيت هذه الطروحات -الرابعة والخامسة- حكراً على العرب الملحدين، من أمثال حسين مروة، والجابري، وغيرهما من العرب الماركسيين الذين يعطون لأنفسهم الحرية المطلقة حتى في نقد الله ورسوله، فضلاً عن الصحابة والتابعين. وحين يقوم علماؤنا بالرد عليهم، لا يأتون في بعض الجوانب -في بعضها فقط- إلا بقيل وقال، وحُكي، وزعموا، ويُحتمل، لأن المرجعيات المقدسة تقهرهم!!
فمثلاً، في كتاب لجلال صادق العظم، يقول فيه إن الصحابة لم يكونوا يلتزمون بأقوال وأفعال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أنها دين، وإنما يأخذون منها ما يحتاجونه لتبرير عمل يريدون القيام به وتخويف العوام بذلك! فمن ذلك تحريم عمر المتعتين!!
ففي البخاري ومسلم أن عمر وقف في الناس خطيباً، وقال: أيها الناس، متعتان كانتا على عهد رسول الله، والله يغفر لرسوله -وفي رواية: والله قد غفر لرسوله ما تقدم من ذنبه وما تأخر-، وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما أشد العقاب، فسأله أحد الصحابة، يا أمير المؤمنين فعلناها نحن وأنت مع رسول الله -يعني متعة الحج- فبِمَ تنهى عنها؟! قال لعلكم تطؤون نساءكم تحت الأراك، ثم تخرجون إلى عرفات ومذاكيركم تقطر من المني!! لا والله لا يكون هذا.
يتساءل جلال العظم، فيقول: تُرى هل كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم غافلاً عما تفطن له عمر؟! أم هل كان هو شريكاً في الرسالة؟! أم أنه في الحقيقة لا نبوة ولا رسالة؟!!
ونحن نسأل: فبماذا يجيب العالم المسلم، الذي وضع بين يديه مُسلَّمتان خطيرتان:
الأولى: ما ثبت في الصحيحين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مسدّدٌ ملهَم، وأن الحق معه حيث كان، وأن الشيطان لا يقترب من الوادي الذي فيه عمر.
الثانية: صحة جميع ما في البخاري ومسلم.
فبماذا يجيب العالم المسلم هذا العربي الماركسي الذي يسمّى في ساحات كثيرة مفكراً؟!
لذلك نقول:
كل تاريخنا الإسلامي بدءاً من ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا يحتاج إلى دراسة في ضوء علم النقد الحديثي، والنقد التاريخي، بدون مرجعيات مسلمة معصومة، فلا الصحابة معصومون، ولا الأئمة معصومون، ولا صحيح البخاري وصحيح مسلم معصومان، ولا أحد من الخلق غير الرسل معصوم.
وتدرس كل روايات التاريخ في ضوء تلاقح هذين المنهجين، وينظر في آراء الفرق المخالفة ليتوقد الذهن عن الإجابات المنطقية، والاستنتاجات الصحيحة بغية الوصول إلى الحق.
وقد نُسأل: ولِمَ نفعل كل هذا؟ وهذا تاريخ مضى وانقضى؟ ولمصلحة من هذا؟
فيجاب: هو لمصلحة الإسلام أولاً، حتى لا ندخل فيه ما ليس منه! وهو لمصلحة المسلمين، لأن المسلمين اليوم كتلٌ بشرية هائلة، فالإمامية الذين استطاعوا على مدار التاريخ تثبيت المرجعية الفقهية، يصدرون عن مرجعية واحدة. ويمكن في المستقبل القريب أن تكون مرجعية الشيعة في العالم، هي ما يقوله مرشد الثورة الايرانية، أو ما يقوله رئيس أكبر دولة شيعية، بصفته القادر السياسي.
والخوارج والزيدية والاسماعيلية وما يتفرع عن كل فرقة من هذه الفرق، كتل بشرية ضخمة لها جيوشها وقواتها ومدمراتها! فلا يجوز بحال من الأحوال أن يبقى الطرح الفكري هو الطرح الفكري الذي كان بعد مقتل الحسين، أو في عهد عمر بن عبد العزيز، أو حتى في عهد العباسيين، لأن كل فرقة من الفرق تشكل ملايين يمكن أن يؤثروا سلباً على واقع المجتمع المسلم، كما هو ظاهر، والله أعلم.