مِنْ عِبَرِ التاريخِ (9):
تَرجمةُ الإمامِ أبي حنيفةَ !؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ
الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ
خَيْرُ الْفَاتِحِين).
نقلَ أحدُ الإخوةِ من الحنفيّة كلاماً للإمام أبي بكر الجصّاص الحنفيّ (ت:
370 هـ) يَحطّ فيه من منهج المحدّثين في قبول الحديثِ أو ردّه، فعلقت تعليقتين
تناسبان المقام، فوصفني أحد متابعي صاحب الصفحة بأنني من الأقزام!
ومن الطبيعيِّ أن أغضب، فكتبت كلاماً مشروعاً، لا شيء فيه، فوجدت صاحب
الصفحة فهمه خطأً، فمسحتُ تعليقاتي الثلاثَ على منشوره!
وسبق لي أن نشرتُ غير منشورٍ يتّصل بالإمام أبي حنيفةَ، وأوضحت العلاقةَ
الوديّة والصلة الروحيّة بيني وبينه!
بيد أنّ داءَ التعصّب؛ يُعمي صاحبَه ويصمّ أذنيه عن سماعِ أيّ كلامٍ علميّ
ليس مديحاً لمن يتعصّب له!
وقد رأيت من المناسبِ أنْ أنقل تراجمَ الأئمّة الأربعةِ المتبوعين، التي
سطرها الإمام أبو السعاداتِ المبارَكُ بن محمّد الشيبانيّ، المشهور بابن الأثير
الجزريّ (ت: 606 هـ) في ختامِ كتابِه الماتع «جامع الأصول في أحاديث الرسول» الذي
جمع فيه موطّأ الإمام مالكٍ، وصحيح الإمام البخاريّ، وصحيح الإمام مسلم، وسنن
الإمام أبي داود، وجامع الإمام الترمذيّ، والمجتبى من السنن للإمام النسائيّ.
ثمّ أبدي رأيي في الشخصيّةِ المترجَم لها.
ومقدّمة هذا الكتاب الحديثيّةُ؛ ماتعةٌ مفيدةٌ بديعة، أنصح بقراءتها الجميع!
قال رحمه الله تعالى في ختام جامع الأصول (12: 952):
«النُعْمانُ بنُ ثابتٍ:
هو أبو حنيفة النعمانُ بنُ ثابتِ بن زُوْطَا بنِ ماهْ، الإِمام الفقيه
الكوفيُّ، مولى تيم الله بن ثعلبة، وهو من رهط حَمْزَةَ الزَّيَات، وكان رضي الله
عنه خزازاً يبيع الخزّ «والخزّ: ثياب تصنع من
الصوف والحرير، أو من الحرير وحده».
كان جدُّه زُوْطا من أهل كابُل، وقيل: من أهل بابل، وقيل: من الأنْبار،
وكان مملوكاً لبني تيم الله بن ثعلبةَ، فأُعتِقَ، ووُلِدَ أبوه ثابتٌ على الإسلام.
قال إسماعيل بن حمّاد بن أبي حنيفة: أنا إسماعيلُ بنُ حمّادِ بن النِعمان
بن ثابتِ بن النعمان بن المرزبان، من أبناء فارسَ، من الأحرار، والله ما وقع علينا
رِقٌّ قطّ!
وُلِدَ جدّي «أبو حنيفة» في سنة ثمانين، وذهب ثابتٌ إلى عليِّ بن أبي طالب، وهو صغير فدعا له بالبركة
فيه وفي ذريته، ونحن نَرجو أن يكونَ اللهُ قد استجابَ ذلك لعَليٍّ «عليه السلام» فينا».
وُلِدَ سنةَ ثمانين، ومات ببغدادَ سنة خمسين ومائة، وقيل: إحدى وخمسين،
وقيل: سنة ثلاث وخمسين، والأول أصح وأكثر، ودُفِنَ بمقابرِ الخَيْزُران، وقبرُه
معروفٌ ببغدادَ.
وكان في أيام أبي حنيفة أربعةٌ من الصحابة: أنسُ بن مالك بالبصرة، وعبد
الله بن أبي أوفى بالكوفة، وسهل بن سعد السَّاعدي بالمدينة، وأبو الطّفيل عامر بن
واثِلة بمكة، ولم يلقَ أحداً منهم ولا أخَذَ عنه.
وأصحابُه يقولون: إنّه لقي جماعةً من الصحابةِ، وروى عنهم، ولا يثَبتُ ذلك
عند أهل النقل.
وأخذَ الفقهَ عن حمادِ بن أبي سليمان.
وسمع عطاءَ بن أبي رباح، وأبا إسحاق السَّبيعي، ومُحاربَ بن دِثار، والهيثمَ
بن حبيب، ومحمد بن المنكدر، ونافعاً مولى ابن عمر، وهِشام بن عروة، وسِماك بن حرب.
روى عنه عبدُ الله بن المبارك، ووكيعُ بن الجرَّاح، ويزيدُ بن هارون، وعلي
بن عاصم، والقاضي أبو يُوسف، ومحمد بن الحسن الشيبانيُّ، وغيرهُم.
نقله المنصورُ من الكوفة إلى بغدادَ، فأقامَ بها إلى أن مات فيها، وكان أكرَهَه
ابنُ هُبَيْرةَ أيامَ مروان بن محمد الأموي على القضاء بالكوفةِ، فأبى، فضربه مائةَ
سوطٍ في عشرة أيام، كل يوم عشرة، فلمَّا رأى ذلك؛ خلَّى سبيلَه.
ولمّا أشْخَصه المنصورُ إلى العراقِ «يريد
بغداد» أرادَه على القضاء، فأبى، فحلفَ عليه ليفعلنَّ، وحلفَ أبو
حنيفة لا يفعل، وتكررت الإيمانُ منهما، فحبسَه المنصورُ، ومات في الحبسِ!
وقيل: إنّه افتدى نفسَه، بأن تَولى عَدَّ اللَبِنِ «طوب البناء» ولم يَصحَّ.
كان رَبْعَةً من الرِّجالِ، وقيل: كان طِوالاً، تعلوه سُمرةٌ، حسنُ الوجه،
أحسنُ الناسِ منطقاً، وأحلاهم نِعمةً «لعلّها نغمةً» حسن المجلس، شَديدَ الكرم، حسن المواساة لإخوانه.
قال الشافعي رحمه الله: قيل لمالك: هل رأيت أبا حنيفة؟
قال مالكٌ: نعم، رأيتُ رجلاً لو كلَّمك في هذه الساريةِ أن يجعلَها ذهباً؛
لقام بحجته.
قال الشافعي: من أراد الحديث فعليه بمالك، ومَن أراد الجدلَ؛ فعليه بأبي
حنيفة.
وقال الشافعي: مَن أراد أن يتبحَّر في الفقهِ؛ فهو عِيال على أبي حنيفة.
ولو ذهبنا إلى شرح مناقبه وفضائله؛ لأطلْنا الخَطْبَ، ولم نصلْ إلى الغرض
منها!
فإنّه كان عالماً عاملاً زاهداً عابداً ورعاً، تقياً، إماماً في علوم
الشريعة مرضياً.
وقد نُسب إليه، وقيل عنه من الأقاويل المختلفةِ، التي نُجلُّ قدرَه عنها،
ويَتنزه منها:
من القولِ بخلقِ القرآن، والقولِ بالقدر، والقولِ بالإرجاء، وغير ذلك مما
نُسب إليه.
ولا حاجة إلى ذكرها، ولا إلى ذكر قائليها، والظاهرُ أنه كان مُنزّهاً عنها.
ويَدلُّ على صحة نزاهته عنها؛ ما نَشر اللهُ تعالى له من الذِّكْر المنتشر
في الآفاق، والعِلْمِ الذي طَبَّقَ الأرضَ، والأَخْذِ بمذهبِه وفقهِه، والرجوعِ
إلى قوله وفعله.
وذلك لو لم يكن للهِ فيه سرٌّ خَفيٌّ،
ورِضى إِلهيٌّ، وَفّقَه اللهُ إليه؛ لما اجتمع شطرُ الإسلامِ أو ما يقاربهُ على
تقليدِه، والعَملِ برأيه ومذهبه، حتى قد عُبِدَ اللهُ، ودِيْنَ بفقْهِه، وعُمِلَ
برأيِه ومَذهبٍه، وأُخذَ بقوله إلى يومنا هذا، ما يُقارب أربعَ مائةٍ وخمسينَ سنةً!
وفي هذا أدلُّ دليلٍ؛ على صِحّةِ مذهبه وعقيدته، وأنّ ما قيلَ عنه؛ هو
منزَّه منه!
وقد جمع أبو جعفر الطحاوي - وهو مِن أكبر الآخذين بمذهبه - كتاباً سماه
«عقيدةُ أبي حنيفةَ رحمه الله» وهي عَقيدةُ أهل السُّنَّة والجماعة، وليس فيها شيء
مما نُسبَ إليه، وقيل عنه.
وأصحابُه أخبرُ بحالِه وبقوله مِن غيرهم، فالرجوعُ إلى ما نَقلوه عنه؛
أوْلى ممّا نَقَلَه غيرُهم عنه، وقد ذُكِر أيضاً سببُ قولِ مَن قال عنه ما قالَ،
والحامل له على ما نَسب إليه.
ولا حاجة بنا إلى ذِكر ما قالوه، فإنّ مثلَ أبي حنيفة ومحلِّه في الإسلامِ؛ لا يَحتاجُ إلى دليلٍ يُعْتَذَرُ
به، مما نُسب إليه، والله أعلم» انتهى كلام ابن
الأثير .
قال الفقير عداب:
لا أرتاب أبداً أنّ أبا حنيفةَ من العلماء العاملين، وأحسبه من أولياء الله
الصالحين - والله حسيبه، فلا نزكّي على الله أحداً - لكنّ العلوم كثيرةٌ ومتنوّعةٌ،
ولا يُشترط ليكون الواحدُ عالماً فاضلاً؛ أن يكون محيطاً بسائر العلوم الدينيّة
والدنيويّة!
والعلماءُ قديماً وحديثاً؛ لديهم مناهج متقاربةٌ في تحصيل العلوم، لكنّ
بعضهم يبرع في الأصول، وبعضهم يبرع في الفقه، وبعضهم يبرع في الرواية، وبعضهم يبرع
في النقد، وهكذا.
توضيح ذلك: نحن حضرنا ودرسنا وقدّمنا امتحاناتٍ في المنطق، وعلم الكلام،
والفلسفة الإسلامية، والفلسفة اليونانية، وفي عقائد السلف، وفي عقائد المعتزلة،
وفي عقائد المتكلّمين، وفي عقائد الفرق الشيعية، وفي مقارنة الأديان، وفي التاريخ
العام، وفي التاريخ الإسلاميّ، وفي السيرة النبوية، وفي التفسير وعلوم القرآن، وفي
الحديث وفنونه، وفي التخريج ودراسة الأسانيد، وفي العلل ومناهج المصنفين فيها، وفي
أصول الفقه، وفي القواعد الفقهية، وفي المقاصد، وفي سدّ الذرائع، وفي المصلحة
الشرعية، وفي الفقه المذهبي، والفقه المقارن، وفقه النوازل...إلخ.
جميع هذا الموادّ العلميةِ وغيرها درسنا فيها كتباً ومقرّراتٍ، وحصّلنا فيها
درجات النجاح؛ حتى مُنحنا درجات «البكالوريوس» ثم «الماجستير» ثم «الدكتوراه».
لكنْ مع هذا يقال عن حملة الدكتوراه من جامعة واحدةٍ، وكليّة شرعية واحدة:
زيدٌ مفسّرٌ، وعُمَرُ محدّث، وحسنٌ متكلّمٌ، وحسينٌ أصوليٌّ، وعليٌّ لغويٌّ،
وهكذا.
هذا يعني أنّ لدى حملة الدكتوراه قدْرٌ مشتركٌ من التحصيلِ العلميّ الواسع الأفقيّ،
ثم يتميّز كلُّ واحدٍ منهم بالتخصّص الذي كتب فيه كتابين على الأقلّ: رسالة
الماجستير وأطروحة الدكتوراه، وهو بعد حصوله على الدكتوراه؛ لا يُنسب إلّا إلى
تخصّصه الدقيق!
والأمرُ ذاته كان لدى سلفنا من علماء الأمّةِ، بقارقٍ أساسيّ؛ هو أنهم لم
يكونوا مطالبين بالحفظ وامتحانِ المحفوظ، إنما كانوا مطالبين بحضور مجالس العلم فحسب!
وإمامنا أبو حنيفةَ عندما نقول: إنّه فقيه؛ نعني أنّه إمامٌ في الفقه،
ومشاركٌ في بقيّة العلوم، لكنه ليس إماماً فيها!
فهو ليس إماماً في التفسير وعلوم القرآن، وليس إماماً في اللغة وعلوم
العربية، وهو ليس إماماً في الأصول والقواعد الفقهية، وهو ليس إماماً في الحديث ونقدِه!
سواءٌ أعجب هذا الكلامُ أتباعَه، أم لم يعجبهم، ومصادر ترجمته تدلّك على
ذلك.
رحم الله سيدنا أبا حنيفةَ رحمةً واسعةً، وعافى أتباعَه من تعصّبهم المقيتُ
له وللمذهب وشيوخه عموماً، فهم من أشدّ المسلمين تعصّباً واستعلاءً!
والله تعالى أعلم.
(رَبَّنا:
ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ
مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا..
وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمدُ للهِ على كلّ حال.